فصل: تفسير الآيات رقم (17- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏ استفهام فيه معنى الجحد، أي لا أحد أظلم ‏{‏مِمَّنِ افترى عَلَى الله‏}‏ الكذب، وزيادة ‏{‏كَذِبًا‏}‏ مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه، فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره، قيل‏:‏ وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن، أو يبدّله، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله، ولا ظلم يماثل ذلك، وقيل‏:‏ المفتري على الله الكذب هم‏:‏ المشركون، والمكذب بآيات الله هم أهل الكتاب ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون‏}‏ تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته، أي لا يظفرون بمطلوب، ولا يفوزون بخير، والضمير في ‏{‏إنه‏}‏ للشأن، أي إن الشأن هذا‏.‏

ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام، وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضرّ من لم يعبدها، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي‏:‏ متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره، لا بمعنى ترك عبادته بالكلية ‏{‏مَالاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما ليس من شأنه الضرّر ولا النفع، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه معاقباً لمن عصاه، والواو لعطف هذه الجملة على جملة ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ و«ما» في ‏{‏مَالاَ يَضُرُّهُمْ‏}‏ موصولة أو موصوفة، والواو في ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ للعطف على ‏{‏وَيَعْبُدُونَ‏}‏ زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله، فلا يعذبهم بذنوبهم‏.‏ وهذا غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضرّ في الحال‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض‏}‏ قرأ أبو السمال العدوي «تنبئون» بالتخفيف من أنبأنا ينبئ‏.‏ وقرأ من عداه بالتشديد من نبأ ينبئ‏.‏ والمعنى‏:‏ أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه، والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سمواته وفي أرضه‏؟‏ وهذا الكلام حاصله‏:‏ عدم وجود من هو كذلك أصلاً، وفي هذا من التهكم بالكفار مالا يخفى، ثم نزّه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير ادخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به عليهم، ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم‏.‏

قرأ حمزة والكسائي ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ بالتحتية‏.‏ وقرأ الباقون بالفوقية، واختار القراءة الأولى أبو عبيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا‏}‏ قد تقدّم تفسيره في البقرة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الناس ما كانوا جميعاً إلا أمة واحدة موحدة لله سبحانه، مؤمنة به، فصار البعض كافراً وبقي البعض الآخر مؤمناً، فخالف بعضهم بعضاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هم العرب كانوا على الشرك‏.‏ وقال‏:‏ كل مولود يولد على الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ، والأوّل أظهر‏.‏ وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى، بل المراد‏:‏ كفر البعض وبقي البعض على التوحيد، كما قدّمنا‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ وهي‏:‏ أنه سبحانه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة ‏{‏لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏فِيمَا‏}‏ هم ‏{‏فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف، وقيل معنى‏:‏ ‏{‏لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ‏}‏ بإقامة الساعة عليهم، وقيل‏:‏ لفرغ من هلاكهم‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة‏:‏ إن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة‏:‏ أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة، وهي إرسال الرسل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَث رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الكلمة‏:‏ قوله «سبقت رحمتي غضبي»‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ «لقضى» بالبناء للفاعل‏.‏ وقرأ من عداه بالبناء للمفعول‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال‏:‏ قال النضر‏:‏ إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ كانوا على هدى‏.‏ وروى أنه قرأ هكذا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ قال‏:‏ آدم وحده ‏{‏فاختلفوا‏}‏ قال‏:‏ حين قتل أحد ابني آدم أخاه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في الآية قال‏:‏ كان الناس أهل دين واحد على دين آدم، فكفروا، فلولا أن ربك أجلهم إلى يوم القيامة لقضى بينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم، وهو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ‏}‏، وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه‏.‏ قيل‏:‏ والقائلون هم‏:‏ أهل مكة، كأنهم لم يعتدّوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفي به دليلاً بيناً ومصدّقاً قاطعاً‏:‏ أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه، ونطلبها منه، كإحياء الأموات، وجعل الجبال ذهباً، ونحو ذلك‏؟‏ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال‏:‏ ‏{‏فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أن نزول الآية غيب، والله هو المختص بعلمه، المستأثر به، لا علم لي ولا لكم، ولا لسائر مخلوقاته ‏{‏فانتظروا‏}‏ نزول ما اقترحتموه من الآيات ‏{‏إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين‏}‏ لنزولها، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا‏}‏ لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضرّاء، فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله؛ والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه‏:‏ أنه وسع عليهم في الأرزاق، وأدرّ عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار، بعد أن مستهم الضرّاء بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضرّ، وطعنوا في آيات الله، واحتالوا في دفعها بكل حيلة، وهو معنى المكر فيها‏.‏ و‏"‏ إذا ‏"‏ الأولى شرطية، وجوابها ‏{‏إذا لهم مكر‏}‏، وهي فجائية، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه‏.‏ ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏ أي‏:‏ أعجل عقوبة، وقد دلّ أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً، ولكن مكر الله أسرع منه‏.‏ وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر‏:‏ أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة، كما قرّر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز ‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏ قرأ يعقوب في رواية، وأبو عمرو في رواية «يمكرون» بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية‏.‏ والمعنى‏:‏ أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار، لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير‏؟‏ وفي هذا وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدّمة وهي‏:‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏ وفي هذه زيادة، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر‏.‏

‏{‏هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر‏}‏ ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً‏.‏ ومعنى تسييرهم في البر‏:‏ أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم، لينتفعوا بها، ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب، ومعنى تسييرهم في البحر‏:‏ أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر، ويسر ذلك لهم، ودفع عنهم أسباب الهلاك‏.‏ وقد قرأ ابن عامر‏:‏ «وهو الذي ينشركم في البحر» بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله‏:‏ ‏{‏فانتشروا فِى الأرض‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ أي ينشرهم سبحانه في البحر، فينجي من يشاء ويغرق من يشاء ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث، وقد تقدّم تحقيقه ‏{‏وَجَرَيْنَ‏}‏ أي السفن بهم، أي بالراكبين عليها، و‏{‏حتى‏}‏ لانتهاء الغاية، والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة‏:‏ أوّلها‏:‏ الكون في الفلك، والثاني‏:‏ جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة، وثالثها‏:‏ فرحهم‏.‏ والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة‏:‏ الأوّل ‏{‏جَاءتْهَا‏}‏ أي‏:‏ جاءت الفلك ريح عاصف، أو جاءت الريح الطيبة‏:‏ أي تلقتها ريح عاصف، والعصوف‏:‏ شدّة هبوب الريح، والثاني‏:‏ ‏{‏وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ أي‏:‏ من جميع الجوانب للفلك، والمراد‏:‏ جاء الراكبين فيها، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر، والثالث‏:‏ ‏{‏ظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدوّ بقوم أو ببلد‏.‏ فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا‏.‏ وجواب إذا في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏جَاءتْهَا‏}‏ إلى آخره، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏دَّعَوَا الله‏}‏ بدلاً من ظنوا، لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظنّ الهلاك وهو الباعث عليه، فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل‏:‏ ماذا صنعوا‏؟‏ فقيل‏:‏ دعوا الله، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ التفات من الخطاب إلى الغيبة، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة‏.‏ وقال الرازي‏:‏ الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد، كما أن عكس ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ دليل الرضا والتقريب، وانتصاب ‏{‏مخلصين‏}‏ على الحال‏:‏ أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه‏.‏ وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطرّ يجاب دعاؤه وإن كان كافراً‏.‏

وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة، وما يشابهها، فياعجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات‏؟‏ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات، ولم يخلصوا الدعاء لله، كما فعله المشركون، كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية، وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم‏؟‏ حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله، ولا في بعضه، من عباد الأوثان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللام في‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه‏}‏ هي اللام الموطئة للقسم، أي قائلين ذلك، والإشارة‏:‏ ‏{‏مِنْ هذه‏}‏ إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر، واللام في ‏{‏لَنَكُونَنَّ‏}‏ جواب القسم، أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا، وتنجينا منها؛ وقيل‏:‏ إنَّ هذه الجملة مفعول ‏{‏دعوا‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا نَجَّاهُمْ‏}‏ الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها، وأجاب دعاءهم، لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم‏.‏ بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر‏.‏ وإذا في ‏{‏إِذَا هُمْ يَبْغُونَ‏}‏ هي الفجائية، أي فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق‏.‏ والبغي‏:‏ هو الفساد، من قولهم بغى الجرح‏:‏ إذا ترامى في الفساد، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق، بل لا يكون إلا بالباطل، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم، بل تمرّداً وعناداً؛ لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا‏}‏ لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته‏.‏ قرأ ابن إسحاق، وحفص، والمفضل بنصب ‏{‏متاع‏}‏، وقرأ الباقون بالرفع‏.‏ فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة‏:‏ أي بغيكم وبال على أنفسكم، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره، ويكون ‏{‏متاع‏}‏ في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل‏:‏ تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر استئنافاً، وقيل‏:‏ إن ‏{‏متاع‏}‏ على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج‏:‏ أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل‏:‏ هو مفعول له‏:‏ أي لأجل متاع الحياة الدنيا، وقيل منصوب بنزع الخافض‏:‏ أي كمتاع؛ وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول‏:‏ أي ممتعين، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب‏.‏

وأما من قرأ برفع ‏{‏متاع‏}‏ فجعله خبر المبتدأ‏:‏ أي بغيكم متاع الحياة الدنيا، ويكون ‏{‏على أنفسكم‏}‏ متعلق بالمصدر، والتقدير‏:‏ إنما بغيكم على أمثالكم، والذين جنسهم جنسكم، متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه‏:‏ أبناء جنسهم، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة؛ وقيل‏:‏ ارتفاع متاع على أنه خبر ثان؛ وقيل‏:‏ على أنه خبر لمبتدأ محذوف‏:‏ أي هو متاع‏.‏ قال النحاس‏:‏ على قراءة الرفع يكون ‏{‏بغيكم‏}‏ مرتفعاً بالابتداء، وخبره ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ و‏{‏على أنفسكم‏}‏ مفعول البغي، ويجوز أن يكون ‏{‏خبره على أنفسكم‏}‏، ويضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا‏.‏ انتهى‏.‏ وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع، بما يطول به البحث في غير طائل‏.‏ والحاصل أنه إذا جعل خبر ‏{‏المبتدأ على أنفسكم‏}‏، فالمعنى؛ أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه، وإن جعل الخبر ‏{‏متاع‏}‏، فالمراد‏:‏ أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال، قريب الاضمحلال، كسائر أمتعة الحياة الدنيا، فإنها ذاهبة عن قرب، متلاشية بسرعة، ليس لذلك كثيرة فائدة ولا عظيم جدوى‏.‏ ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة، مع وعيد شديد فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ‏}‏ وتقديم الخبر للدلالة على القصر، والمعنى‏:‏ أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله، فيجازي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه ‏{‏فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا، أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ، والمراد بذلك‏:‏ المجازاة، كما تقول لمن أساء‏:‏ سأخبرك بما صنعت، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع، في قوله‏:‏ ‏{‏فانتظروا إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين‏}‏ قال‏:‏ خوفهم عذابه وعقوبته‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا‏}‏ قال‏:‏ استهزاء وتكذيب‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في قوله‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ هلكوا‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص، ما حاصله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة، منهم عكرمة بن أبي جهل، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة‏:‏ أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً، فقال عكرمة‏:‏ لئن لم ينجني في البحر الإخلاص، ما ينجيني في البرّ غيره‏.‏ اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم‏.‏

وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم، والخطيب في تاريخه، والديلمي في مسند الفردويس، عن أنس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث هنّ رواجع على أهلها‏:‏ المكر، والنكث، والبغي»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي بكرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تبغ ولا تكن باغياً، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏» وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال‏:‏ ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه‏:‏ المكر، والبغي، والنكث، قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏‏.‏

أقول أنا‏:‏ وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دلّ القرآن على أنها تعود على فاعلها‏:‏ الخدع، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏يخادعون الله والذين ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 30‏]‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

لما ذكر الله سبحانه ما تقدّم من متاع الدنيا، جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها، وتجتلب النفوس ببهجتها‏.‏ وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً، ويهتكوا حرمهم حباً لها، وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها، وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضادّ ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه، وذهاب بهجته، وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنوار نوره، وحاكت الزهر أنواع زهره، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَآء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء‏}‏ بل ما يفهم من الكلام، والباء في‏:‏ ‏{‏فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض‏}‏ للسببية، أي فاختلط بسببه نبات الأرض بأن اشتبك بعضه ببعض، حتى بلغ إلى حدّ الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أوّل بروزه، ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع، فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا، حتى اختلط بعض الأنواع ببعض ‏{‏مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام‏}‏ من الحبوب والثمار، والكلأ والتبن، وأخذت الأرض زخرفها‏.‏ قال في الصحاح الزخرف‏:‏ الذهب، ثم يشبه به كل مموّه مزوّر‏.‏ انتهى‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب، وبعضه للون الفضة، وبعضه للون الياقوت، وبعضه للون الزمرّد‏.‏ وأصل ازينت‏:‏ تزينت أدغمت التاء في الزاي، وجئ بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن‏.‏ والساكن لا يمكن الابتداء به‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبيّ بن كعب «وتزينت» على الأصل‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية «وأزينت» على وزن أفعلت‏:‏ أي أزينت بالزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة‏.‏ وقال عوف بن أبي جميلة‏:‏ قرأ أشياخنا «وازيانت» على وزن اسوادّت، وفي رواية المقدمى «وازانت» والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت‏.‏ وقرأ الشعبي، وقتادة «أزينت»، ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها، والضمير في عليها للأرض، والمراد‏:‏ النبات الذي هو عليها ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا‏}‏ جواب إذا، أي‏:‏ جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات ‏{‏فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا‏}‏ أي‏:‏ جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الحصيد‏:‏ المستأصل ‏{‏كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس‏}‏ أي‏:‏ كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس‏:‏ مخضرّاً طرياً، من غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به، والمراد بالأمس الوقت القريب، والمغاني في اللغة‏:‏ المنازل‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كأن لم تنعم، قال لبيد‏:‏

غنيت سنيناً قبل مجرى داحس *** لو كان للنفس اللجوج خلود

وقرأ قتادة «كن لم يغن» بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف‏.‏ وقرأ من عداه ‏{‏تَغْنَ‏}‏ بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك التفصيل البديع ‏{‏نُفَصّلُ الآيات‏}‏ القرآنية التي من جملتها هذه الآية ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فيما اشتملت عليه، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام‏}‏ لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عزّ وجلّ إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة‏:‏ السلام هو‏:‏ الله تعالى، وداره الجنة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى والله يدعو إلى دار السلامة‏.‏ ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

تحيى بالسلامة أمّ بكر *** وهل لك بعد قومك من سلام

وقيل‏:‏ أراد دار السلام الذي هو‏:‏ التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى‏:‏ التحية، كما في قوله‏:‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ السلام اسم لأحد الجنان السبع‏:‏ أحدها‏:‏ دار السلام، والثانية‏:‏ دار الجلال، والثالثة‏:‏ جنة عدن، والرابعة‏:‏ جنة المأوى، والخامسة‏:‏ جنة الخلد، والسادسة‏:‏ جنة الفردوس، والسابعة‏:‏ جنة النعيم‏.‏ وقيل المراد‏:‏ دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة، وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة، والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه، تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه‏.‏

ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين، وبين حال كل طائفة فقال‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ أي‏:‏ الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال، والكفّ عما نهاهم عنه من المعاصي، والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها؛ وقيل المراد بالحسنى‏:‏ الجنة، وأما الزيادة فقيل المراد بها‏:‏ ما يزيد على المثوبة من التفضل، كقوله‏:‏ ‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 30‏]‏ وقيل الزيادة‏:‏ النظر إلى وجهه الكريم‏.‏ وقيل‏:‏ الزيادة‏:‏ هي‏:‏ مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها‏.‏ وقيل‏:‏ الزيادة‏:‏ غرفة من لؤلؤ، وقيل الزيادة‏:‏ مغفرة من الله ورضوان‏.‏ وقيل‏:‏ هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك، مما لا فائدة في ذكره، وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ معنى ‏{‏يرهق‏}‏‏:‏ يلحق، ومنه قيل‏:‏ غلام مراهق، إذا لحق بالرجال، وقيل يعلو، وقيل يغشى، والمعنى متقارب؛ والقتر‏:‏ الغبار، ومنه قول الفرزدق‏:‏

متوّج برداء الملك يتبعه *** موج ترى فوقه الرايات والقترا

وقرأ الحسن «قتر» بإسكان المثناة، والمعنى واحد، قاله النحاس، وواحد القتر قترة، والذلة‏:‏ ما يظهر على الوجه من الخضوع والإنكسار والهوان، والمعنى‏:‏ أنه لا يعلو وجوههم غبرة، ولا يظهر فيها هوان؛ وقيل القتر‏:‏ الكآبة، وقيل‏:‏ سواد الوجوه، وقيل‏:‏ هو دخان النار ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها، المتنعمون بأنواع نعيمها ‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة، وهو معطوف على ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أو يقدر‏.‏ وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها‏:‏ أي يجازي سيئة واحدة بسيئة واحدة، لا يزاد عليها، وهذا أولى من الأوّل، لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين، والمراد بالسيئة‏:‏ إما الشرك، أو المعاصي التي ليست بشرك، وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي، قال ابن كيسان‏:‏ الباء زائدة، والمعنى‏:‏ جزاء سيئة مثلها؛ وقيل‏:‏ الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى‏:‏ جزاء سيئة كائن بمثلها، كقولك إنما أنا بك، ويجوز أن يتعلق بجزاء، والتقدير جزاء سيئة بمثلها كائن، فحذف خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون ‏{‏جَزَاء‏}‏ مرفوعاً على تقدير‏:‏ فلهم جزاء سيئة، فيكون مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ أي‏:‏ فعليه عدّة‏.‏ والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف، كأنه قال‏:‏ لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ أي يغشاهم هوان وخزي‏.‏ وقرئ «يرهقهم» بالتحتية ‏{‏لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يعصمهم أحد كائناً من كان من سخط الله وعذابه، أو مالهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين، والأوّل‏:‏ أولى، والجملة في محل نصب على الحالية، أو مستأنفة ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً‏}‏ قطعاً جمع قطعة، وعلى هذا يكون مظلماً منتصباً على الحال من الليل‏:‏ أي أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حالة ظلمته‏.‏ وقد قرأ بالجمع جمهور القراء‏.‏ وقرأ الكسائي وابن كثير ‏"‏ قطعا ‏"‏ بإسكان الطاء، فيكون ‏{‏مظلماً‏}‏ على هذا صفة ل ‏{‏قطعا‏}‏، ويجوز أن يكون حالاً من ‏{‏الليل‏}‏‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ القطع طائفة من الليل ‏{‏أولئك‏}‏ أي‏:‏ الموصوفون بهذه الصفات الذميمة ‏{‏أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ الحشر الجمع، وجميعاً منتصب على الحال ‏{‏وَيَوْمَ‏}‏ منصوب بمضمر‏:‏ أي أنذرهم يوم نحشرهم، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ في حالة الحشر، ووقت الجمع تقريعاً لهم على رءوس الأشهاد، وتوبيخاً لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة، وحضور معبوداتهم ‏{‏مَكَانَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الزموا مكانكم، واثبتوا فيه، وقفوا في موضعكم ‏{‏أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏ هذا الضمير تأكيد للضمير الذي في مكانكم لسدّه مسدّ الزموا، و‏{‏شركاؤكم‏}‏ معطوف عليه‏.‏ وقرئ بنصب ‏{‏شركاؤكم‏}‏ على أن الواو واو مع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فرّقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا‏:‏ يقال زيلته فتزيل‏:‏ أي فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة، يقال زايله مزايلة، وزيالاً إذا فارقه، والتزايل التباين‏.‏ قال الفراء‏:‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏ فزايلنا ‏"‏ والمراد بالشركاء هنا‏:‏ الملائكة‏.‏ وقيل الشياطين، وقيل الأصنام، وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت‏.‏ وقيل‏:‏ المسيح، وعزير، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائناً ما كان، وجملة‏:‏ ‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال بتقدير قد، والمعنى‏:‏ وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ما كنتم إيانا تعبدون، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم، وشياطينكم الذين أغووكم، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه، لكونهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية‏.‏ وقيل‏:‏ لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب، وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفاً لما قد وقع من المشركين من عبادتهم، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة ‏{‏فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ إن كنا أمرناكم بعبادتنا، أو رضينا ذلك منكم ‏{‏إِن كُنَّا عَن عِبَادَتِكُمْ لغافلين‏}‏ ‏"‏ إن ‏"‏ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والقائل لهذا الكلام هم‏:‏ المعبودون‏.‏ قالوا لمن عبدهم من المشركين‏:‏ إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين، والمراد بالغفلة هنا‏:‏ عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم، وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين، لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم، ويمكن أن يكونوا من الشياطين، ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم، ولا أكرهوهم عليها‏.‏

‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏ أي‏:‏ في ذلك المكان وفي ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت على استعارة اسم الزمان للمكان تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل، فمعنى ‏{‏تبلو‏}‏‏:‏ تذوق وتختبر‏.‏ وقيل‏:‏ تعلم‏.‏ وقيل‏:‏ تتبع، وهذا على قراءة من قرأ «تبلو» بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس؛ وأما على قراءة من قرأ‏:‏ «نبلو» بالنون، فالمعنى‏:‏ أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها، ويكون ما أسلفت بدلاً من كل نفس‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق‏}‏ معطوف على ‏{‏زيلنا‏}‏، والضمير في ‏{‏ردّوا‏}‏ عائد إلى الذين أشركوا‏:‏ أي ردّوا إلى جزائه، وما أعدّ لهم من عقابه، و‏{‏مولاهم‏}‏‏:‏ ربهم، و‏{‏الحق‏}‏ صفة له‏:‏ أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وقرئ «الحق» بالنصب على المدح، كقولهم الحمد لله أهل الحمد ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ضاع وبطل ما كانوا يفترون من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة، لتشفع لهم إلى الله وتقرّبهم إليه‏.‏

والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق، ويعترفون به، ويقرّون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهاً، ولكن حين لا ينفعهم ذلك‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض‏}‏ قال‏:‏ اختلط فنبت بالماء كل لون ‏{‏مِمَّا يَأْكُلُ الناس‏}‏ كالحنطة والشعير، وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما تأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وازينت‏}‏ قال‏:‏ أنبتت وحسنت، وفي قوله‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس‏}‏ قال‏:‏ كأن لم تعش، كأن لم تنعم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبيّ بن كعب، وابن عباس، ومروان بن الحكم، أنهم كانوا يقرءون بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏ وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه كان يقرأ‏:‏ وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها «كذلك نفصل الأيات»‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عن أبي مجلز، قال‏:‏ كان مكتوب في سورة يونس إلى حيث هذه الآية ‏{‏حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا‏}‏ إلى ‏{‏يَتَفَكَّرُونَ‏}‏، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمني وادياً ثالثاً، ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، فمحيت‏.‏

وأخرج أبو نعيم، والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُو إِلَى دَارُ السلام‏}‏ يقول‏:‏ يدعو إلى عمل الجنة‏.‏ والله‏:‏ السلام، والجنة‏:‏ داره‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ قال‏:‏ يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات‏.‏ وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن أبي الدرداء، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين‏:‏ يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين‏:‏ اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً ‏{‏واليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1 10‏]‏»

وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن سعيد بن أبي هلال، سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ وتلا‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ فقال‏:‏ حدّثني جابر قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال‏:‏ ‏"‏ إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه‏:‏ اضرب له مثلاً، فقال‏:‏ اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من ترك؛ فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها ‏"‏ وقد روي معنى هذا من طرق‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام‏}‏ قال‏:‏ ذكر لنا أن في التوراة مكتوباً‏:‏ يا باغي الخير هلمّ، ويا باغي الشرّ اتقه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، أنه كان إذا قرأ‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام‏}‏ قال‏:‏ لبيك ربنا وسعديك‏.‏

وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وغيرهم، عن صهيب‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون‏:‏ وما هو‏؟‏ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؛ قال‏:‏ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبّ إليهم من النظر إليه، ولا أقرّ لأعينهم ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الرؤية، وابن مردويه، عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي بصوت يسمعه أوّلهم وآخرهم‏:‏ إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ‏"‏ فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في الرؤية، عن كعب بن عجرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ الزيادة‏:‏ النظر إلى وجه الرحمن ‏"‏ وأخرج هؤلاء والدارقطني، وابن أبي حاتم، عن أبيّ بن كعب، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏

«الذين أحسنوا‏:‏ أهل التوحيد، والحسنى‏:‏ الجنة، والزيادة‏:‏ النظر إلى وجه الله» وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر، مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، والدارقطني، وابن مردويه، والخطيب، وابن النجار، عن أنس مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن أبي هريرة نحوه‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والدارقطني، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي بكر الصدّيق، في الآية قال‏:‏ الحسنى‏:‏ الجنة، والزيادة‏:‏ النظر إلى وجه الله‏.‏ وأخرج ابن مردويه، من طريق الحرث، عن عليّ بن أبي طالب في الآية مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والدارقطني، والبيهقي، عن حذيفة في الآية قال‏:‏ الزيادة‏:‏ النظر إلى وجه الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والدارقطني، والبيهقي، عن أبي موسى نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، من طريق عكرمة، عن ابن عباس نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، واللالكائي عن ابن مسعود، نحوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عن عليّ قال‏:‏ الزيادة‏:‏ غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلؤة واحدة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏ هو مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏ يقول‏:‏ يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏‏.‏ وقد روى عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه‏.‏ وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق حينئذ لقائل مقال، ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم، والله المستعان‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لا يغشاهم ‏{‏قَتَرٌ‏}‏ قال‏:‏ سواد الوجوه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن عطاء في الآية قال‏:‏ القتر‏:‏ سواد الوجه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في الآية قال‏:‏ خزي‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن صهيب عن النبيّ‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ «بعد نظرهم إليه عزّ وجلّ» وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله‏:‏ ‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات‏}‏ قال‏:‏ الذين عملوا الكبائر ‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ النار ‏{‏كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً‏}‏ القطع‏:‏ السواد‏.‏ نسختها الآية في البقرة‏:‏ ‏{‏بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 81‏]‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ تغشاهم ذلة وشدّة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ يقول‏:‏ من مانع‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ الحشر الموت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ فرّقنا بينهم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال‏:‏ تنصب الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، فيقول‏:‏ هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، هؤلاء الذين كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة‏.‏ والله ما كنا نسمع ولا نبصر، ولا نعقل، ولا نعلم، أنكم كنتم تعبدوننا، فيقولون‏:‏ بلى والله لإياكم كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة‏:‏ ‏{‏فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين‏}‏‏.‏

وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله، فيتبعونهم حتى يؤدّوهم النار»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ ‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُواْ‏}‏ يقول‏:‏ تتبع‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال‏:‏ ‏{‏تبلو‏}‏‏:‏ تختبر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، ‏{‏تبلو‏}‏ قال‏:‏ تعاين ‏{‏تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏ ما عملت ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ ما كانوا يدعون معه من الأنداد‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق‏}‏ قال‏:‏ نسخها قوله‏:‏ ‏{‏الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 41‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏39‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏40‏)‏ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

لما بيّن فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة، من أحوال الرزق والحواس، والموت والحياة، والابتداء والإعادة، والإرشاد والهدى، وبنى سبحانه الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين، ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد، وبطلان ما هم عليه من الشرك ‏{‏مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض‏}‏ من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن، فإن اعترفوا حصل المطلوب، وإن لم يعترفوا فلا بدّ أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما ‏{‏أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار‏}‏ «أم» هي المنقطعة، وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال، وخص السمع والبصر بالذكر، لما فيهما من الصنعة العجيبة، والقدرة الباهرة العظيمة، أي‏:‏ من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة، والخلقة الغريبة، حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم، ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين‏.‏ ثم انتقل إلى حجة ثالثة، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏ الإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والنبات من الحبة، أو المؤمن من الكافر ‏{‏يَخْرُجُ الميت مِنَ الحى‏}‏ أي‏:‏ النطفة من الإنسان، أو الكافر من المؤمن، والمراد من هذا الاستفهام عمن يحيي ويميت‏.‏ ثم انتقل إلى حجة رابعة، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُدَبّرُ الأمر‏}‏ أي‏:‏ يقدّره ويقضيه، وهذا من عطف العام على الخاص؛ لأنه قد عمّ ما تقدّم وغيره ‏{‏فَسَيَقُولُونَ الله‏}‏ أي‏:‏ سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات إن الفاعل لهذه الأمور هو‏:‏ الله سبحانه، إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم، وارتفاع الاسم الشريف على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي‏:‏ الله يفعل ذلك، ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ والاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر‏:‏ أي تعلمون ذلك، أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال‏.‏

‏{‏فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق‏}‏ أي‏:‏ فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق، لا ما جعلتموهم شركاء له، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال‏}‏ للتقريع والتوبيخ، إن كانت «ما» استفهامية، لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام، والمعنى‏:‏ أيّ شيء بعد الحق إلا الضلال، فإن ثبوت ربوبية الربّ سبحانه حق بإقرارهم، فكان غيره باطلاً، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته ‏{‏فأنى تُصْرَفُونَ‏}‏ أي‏:‏ كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر، وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما‏؟‏ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب ‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الذين فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، كذلك حقت كلمة ربك‏:‏ أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا‏:‏ أي خرجوا من الحق إلى الباطل، وتمرّدوا في كفرهم عناداً ومكابرة، وجملة ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بدل من الكلمة‏.‏

قاله الزجاج‏:‏ أي حقت عليهم هذه الكلمة، وهي عدم إيمانهم، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام‏:‏ أي لأنهم لا يؤمنون‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف، وقد قرأ نافع، وابن عامر‏:‏ «كلمات ربك» بالجمع‏.‏ وقرأ الباقون بالافراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد، لكنه لما كان أمراً ظاهراً بيناً، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف، ولم يكابر، كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي يفعل ذلك لا غيره، وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب، إما على طريق التلقين لهم، وتعريفهم كيف يجيبون، وإرشادهم إلى ما يقولون، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم، ومعرفة ما لديه، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب، فراراً منهم عن أن تلزمهم الحجة، أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق، ومعنى‏:‏ ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف تؤفكون، أي تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره‏.‏

ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سادسة فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق‏}‏ والاستفهام ها هنا، كالاستفهامات السابقة، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيراً في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذى أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذى خَلَقَ فسوى * والذى قَدَّرَ فهدى‏}‏ ‏[‏الأَعلى‏:‏ 2، 3‏]‏ وفعل الهداية يجيء متعدياً باللام وإلى، وهما بمعنى واحد‏.‏ روي ذلك عن الزجاج‏.‏ والمعنى‏:‏ قل لهم يا محمد، هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام، ويدعو الناس إلى الحق‏؟‏ فإذا قالوا لا، فقل لهم‏:‏ الله يهدي للحق دون غيره، ودليل ذلك ما تقدّم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل، وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام، والأسماع والأبصار، والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن مَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى‏}‏ للتقرير وإلزام الحجة‏.‏

وقد اختلف القراء في ‏{‏لاَّ يَهِدِّى‏}‏ فقرأ أهل المدينة إلا نافعاً «يهدي» بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين‏.‏ قال النحاس‏:‏ والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاساً‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وقالون، في رواية بين الفتح والإسكان‏.‏ وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وورش، وابن محيصن، بفتح الياء والهاء وتشديد الدال‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدى، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء‏.‏ وقرأ حفص، ويعقوب، والأعمش مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا‏:‏ لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين‏.‏ وقرأ أبو بكر، عن عاصم ‏"‏ يهديِ ‏"‏ بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، وذلك للاتباع‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى بن وثاب ‏"‏ يهْديَ ‏"‏ بفتح الياء وإسكان الهاء، وتخفيف الدال من هدي يهدي‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه القراءة لها وجهان في العربية، وإن كانت بعيدة‏:‏ الأوّل‏:‏ أن الكسائي والفراء قالا‏:‏ إن ‏{‏يهدي‏}‏ بمعنى يهتدي‏.‏ الثاني‏:‏ أن أبا العباس قال‏:‏ إن التقدير أم من لا يهدي غيره، ثم تمّ الكلام، وقال بعد ذلك ‏{‏إِلاَّ أَن يهدى‏}‏ أي‏:‏ لكنه يحتاج أن يهدى، فهو استثناء منقطع، كما تقول‏:‏ فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع‏:‏ أي لكنه يحتاج أن يسمع، والمعنى على القراءات المتقدمّة‏:‏ أفمن يهدي الناس إلى الحق، وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدي به، أم الأحق بأن يتبع ويقتدي به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، فضلاً عن أن يهدي غيره‏؟‏ والاستثناء على هذا، استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين، أي أيّ شيء لكم كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ، و‏{‏كيف‏}‏ في محل نصب ب ‏{‏تحكمون‏}‏، ثم بيّن سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم، وعلى أيّ شيء بنوه‏.‏ وبأيّ شيء اتبعوا هذا الدين الباطل، وهو الشرك فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏ وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة‏.‏ والمعنى‏:‏ ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله، وجعلهم له أنداداً إلا مجرّد الظن، والتخمين والحدس، ولم يكن ذلك عن بصيرة، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقرّبهم إلى الله، وأنها تشفع لهم، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط، بل مجرد خيال مختل وحدس باطل، ولعل تنكير الظن هنا للتحقير‏:‏ أي إلا ظناً ضعيفاً لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالآية‏:‏ إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظناً‏.‏ والأوّل‏:‏ أولى‏.‏ ثم أخبرنا الله سبحانه‏:‏ بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئاً، لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم، وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يدرك به الحق، ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء، ويجوز انتصاب شيئاً على المصدرية، أو على أنه مفعول به، و‏{‏من الحق‏}‏ حال منه والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه ‏{‏إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله‏}‏ لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه، شرع في تثبيت أمر النبوّة‏:‏ أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البيّنة، والبراهين الواضحة، يفترى من الخلق من دون الله، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ، وكيف يصح أن يكون مفترى، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم أذهاناً ‏{‏ولكن‏}‏ كان هذا القرآن ‏{‏تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من الكتب المنزلة على الأنبياء، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة؛ لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه، ولا اتصل بمن له علم بذلك، وانتصاب ‏{‏تصديق‏}‏ على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف، أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه‏.‏ قال الفراء‏:‏ ومعنى الآية، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏، ‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏أن‏}‏ بمعنى اللام، أي‏:‏ وما كان هذا القرآن ليفترى‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى لا‏:‏ أي لا يفترى، قال الكسائي والفراء‏:‏ إن التقدير في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن تَصْدِيقَ‏}‏ ولكن كان تصديق، ويجوز عندهما الرفع، أي‏:‏ ولكن هو تصديق‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولكن القرآن تصديق ‏{‏الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من الكتب، أي أنها قد بشرت به قبل نزوله، فجاء مصدّقاً لها‏.‏ قيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولكن تصديق النبيّ الذي بين يدي القرآن، وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتَفْصِيلَ الكتاب‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ فيجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في ‏{‏تصديق‏}‏، والتفصيل‏:‏ التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدّمة، والكتاب للجنس‏.‏

وقيل‏:‏ أراد ما بين في القرآن من الأحكام، فيكون المراد بالكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ الضمير عائد إلى القرآن، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب، ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محلّ لها، و‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ خبر رابع‏:‏ أي كائن من ربّ العالمين، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب، أو من ضمير القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ كائناً من ربّ العالمين، ويجوز أن يكون متعلقاً بتصديق وتفصيل، وجملة ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ معترضة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ الاستفهام للإنكار عليهم، مع تقرير ثبوت الحجة، و«أم» هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، أي بل أيقولون افتراه واختلقه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أم بمعنى الواو‏:‏ أي ويقولون افتراه‏.‏ وقيل‏:‏ الميم زائدة، والتقدير‏:‏ أيقولون افتراه، والاستفهام للتقريع والتوبيخ‏.‏ ثم أمره الله سبحانه أن يتحدّاهم حتى يظهر عجزهم ويتبيّن ضعفهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمداً افتراه، فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة، وجودة الصناعة، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن وبلاغة الكلام ‏{‏وادعوا‏}‏ بمظاهريكم ومعاونيكم ‏{‏مَنِ استطعتم‏}‏ دعاءه والاستعانة به، من قبائل العرب، ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏ادعوا‏}‏‏:‏ أي ادعوا من سوى الله من خلقه ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في دعواكم أن هذا القرآن مفترى‏.‏

وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها، وأظهرها للعقول، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية، قال لهم‏:‏ هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم، ليس عليكم إلا أن تأتوا، وأنتم الجمع الجمّ، بسورة مماثلة لسورة من سوره، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم، أو من غيرهم من بني آدم، أو من الجنّ، أو من الأصنام، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي، فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي، فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف، والتنزّل البالغ، بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة، بل كاعوا عن الجواب، وتشبثوا بأذيال العناد البارد، والمكابرة المجردة عن الحجة، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل، ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدّي البالغ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏}‏ فأضرب عن الكلام الأوّل، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن، قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه، وما اشتمل عليه، وهكذا صنع من تصلب في التقليد، ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه، ويعلم مبناه، كما تراه عياناً وتعلمه وجداناً‏.‏

والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة، والبرهان الواضح، قبل أن يحيط بعلمه، فهو لم يتسمك بشيء في هذا التكذيب، إلا مجرد كونه جاهلاً لما كذب به غير عالم به، فكان بهذا التكذيب منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوت، ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء‏:‏

ما يبلغ الأعداء من جاهل *** ما يبلغ الجاهل من نفسه

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏}‏ معطوف على‏:‏ ‏{‏لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبما لم يأتهم تأويله، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به، ولا بلغته عقولهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدّمين، والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها، أو قبل أن يفهموه حق الفهم، وتتعقله عقولهم، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله، وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة، واللطائف الأنيقة، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأوّل‏:‏ ‏{‏كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله‏:‏ ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين‏}‏ من الأمم السالفة من سوء العاقبة، بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم، كما حكى ذلك القرآن عنهم، واشتملت عليه كتب الله المنزّلة عليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه، ويعلم أنه صدق وحق، ولكنه كذب به مكابرة وعناداً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ ومنهم من يؤمن به في المستقبل، وإن كذب به في الحال، والموصول مبتدأ، وخبره منهم ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ‏}‏ ولا يصدّقه في نفسه، بل كذب به جهلاً كما مرّ تحقيقه، أو لا يؤمن به في المستقبل، بل يبقى على جحوده وإصراره‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في الموضعين للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة، وقيل‏:‏ عام في جميع الكفار ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين‏}‏ فيجازيهم بأعمالهم، والمراد بهم‏:‏ المصرّون المعاندون، أو بكلا الطائفتين، وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم، ويكذبون به في الظاهر، والذين يكذبون به جهلاً، أو الذين يؤمنون به في المستقبل، والذين لا يؤمنون به‏.‏

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن أصرّوا على تكذيبه واستمرّوا عليه‏:‏ ‏{‏لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ‏}‏ أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم، فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه، وليس عليّ غير ذلك، ثم أكد هذا بقوله‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تؤاخذون بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا منسوخ بآية السيف كما ذهب إليه جماعة من المفسرين‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ‏}‏ يقول‏:‏ سبقت كلمة ربك‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، قال‏:‏ صدقت‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى‏}‏ قال‏:‏ الأوثان‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى‏}‏ الآية، قال‏:‏ أمره بهذا، ثم نسخه، فأمره بجهادهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 49‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏45‏)‏ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ‏}‏ الخ بيّن الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد، وهي أنهم يستمعون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة؛ لعدم حصول أثر السماع، وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ يعني‏:‏ أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صمّ، والصمم مانع من سماعهم، فكيف تطمع منهم بذلك مع حصول المانع، وهو‏:‏ الصمم، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنهم لا يعقلون، فإن من كان أصمّ غير عاقل، لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له‏.‏ وجمع الضمير في ‏{‏يستمعون‏}‏ حملاً على معنى من، وأفرده في ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ‏}‏ حملاً على لفظه‏.‏ قيل‏:‏ والنكتة‏:‏ كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين؛ لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر، من المقابلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع، والنور الموافق لنور البصر، والتقدير في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ‏}‏ ومنهم ناس يستمعون، ومنهم بعض ينظر، والهمزتان في ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ‏}‏ ‏{‏أَفَأَنْتَ تَهْدِى‏}‏ للإنكار، والفاء في الموضعين للعطف على مقدّر، كأنه قيل‏:‏ أيستمعون إليك فأنت تسمعهم‏؟‏ أينظرون إليك فأنت تهديهم‏؟‏ والكلام في‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ كالكلام في ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ‏}‏ الخ؛ لأن العمى مانع، فكيف يطمع من صاحبه في النظر‏.‏ وقد انضمّ إلى فقد البصر، فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر، وكذلك الأصمّ العاقل، قد يتحدّس تحدّساً يفيده بعض فائدة، بخلاف من جمع له بين عمي البصر والبصيرة، فقد تعذر عليه الإدراك‏.‏ وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل، فقد انسدّ عليه باب الهدى، وجواب «لو» في الموضعين محذوف، دلّ عليهما ما قبلهما، والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه، واستراح من الاشتغال به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ذكر هذا عقب ما تقدّم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل، والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية، فعلى نفسها براقش تجني، وقرأ حمزة والكسائي «ولكن الناس» بتخفيف النون ورفع الناس، وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس‏.‏

قال النحاس‏:‏ زعم جماعة من النحويين منهم الفراء، أن العرب إذا قالت «ولكن» بالواو شدّدوا النون، وإذا حذفوا الواو خففوها‏.‏ قيل‏:‏ والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر، أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ الظرف منصوب بمضمر‏:‏ أي واذكر يوم نحشرهم ‏{‏كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ‏}‏ أي‏:‏ كأنهم لم يلبثوا، والجملة في محلّ نصب على الحال‏:‏ أي مشبهين من لم يلبث ‏{‏إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار‏}‏ أي‏:‏ شيئاً قليلاً منه، والمراد باللبث‏:‏ هو اللبث في الدنيا، وقيل‏:‏ في القبور، واستقلوا المدّة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا، فجعلوا وجودها كالعدم، أو استقصروها للدهش والحيرة، أو لطول وقوفهم في المحشر، أو لشدّة ما هم فيه من العذاب، نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن، ومثل هذا قولهم‏:‏ ‏{‏لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 113‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ في محل نصب على الحال، أو مستأنفة‏.‏ والمعنى‏:‏ يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً، وذلك عند خروجهم من القبور، ثم تنقطع التعاريف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول، المذهلة للأفهام‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا التعارف، هو‏:‏ تعارف التوبيخ والتقريع، يقول بعضهم لبعض‏:‏ أنت أضللتني وأغويتني، لا تعارف شفقة ورأفة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ فيجمع بأن المراد بالتعارف؛ هو‏:‏ تعارف التوبيخ، وعليه يحمل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة، فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران، والجملة في محل النصب على الحال، والمراد بلقاء الله‏:‏ يوم القيامة عند الحساب والجزاء، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم، وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ أصله‏:‏ إن نرك، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد، والمعنى‏:‏ إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فتراه، أو فذاك، وجملة‏:‏ ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ معطوفة على ما قبلها، والمعنى‏:‏ أو لا نرينك ذلك في حياتك، بل نتوفينك قبل ذلك ‏{‏فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ فعند ذلك نعذبهم في الآخرة، فنريك عذابهم فيها، وجواب ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ محذوف أيضاً، والتقدير‏:‏ أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ إن جواب ‏{‏أونتوفينك‏}‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وسلم تعذيبهم في الآخرة، وقيل‏:‏ العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة، والأصل‏:‏ أريناك أو توفيناك، وفيه نظر، فإن إراءته صلى الله عليه وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة‏.‏ وحاصل معنى هذه الآية‏:‏ إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً‏.‏ وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم، وذلهم وذهاب عزّهم، وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن، فلله الحمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ‏}‏ جاء بثم الدالة على التبعيد، مع كون الله سبحانه شهيداً على ما يفعلونه في الدارين، للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء، أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم، كما ذكره النيسابوري ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ من الأمم الخالية في وقت من الأوقات ‏{‏رَّسُولٍ‏}‏ يرسله الله إليهم، ويبيّن لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة ‏{‏فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ‏}‏ إليهم، وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً ‏{‏قُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بين الأمة ورسولها ‏{‏بالقسط‏}‏ أي‏:‏ العدل فنجا الرسول، وهلك المكذبون له، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ويجوز أن يراد بالضمير في ‏{‏بينهم‏}‏ الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم، وصدقه البعض الآخر، فيهلك المكذبون، وينجو المصدقون ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ في ذلك القضاء، فلا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجِئ بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 69‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والمراد المبالغة في إظهار العدل، والنصفة بين العباد، ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا ‏{‏يَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ والاستفهام منهم للإنكار، والاستبعاد، وللقدح في النبوّة ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ خطاباً منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم‏.‏

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادّة الشبهة ويقطع اللجاج فقال‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا‏}‏ أي‏:‏ لا أقدر على جلب نفع لها، ولا دفع ضرّ عنها، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري، وقدّم الضرّ، لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه، والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ منقطع كما ذكره أئمة التفسير، أي‏:‏ ولكن ما شاء الله من ذلك كان، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً، وفي هذه أعظم واعظ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه‏.‏

فإن هذا مقام ربّ العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين، وجميع المخلوقين، ورزقهم، وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء، أو ملك من الملائكة، أو صالح من الصالحين، ما هو عاجز عنه غير قادر عليه، ويترك الطلب لربّ الأرباب القادر على كل شيء، الخالق الرازق المعطي المانع‏؟‏ وحسبك بما في هذه الآية موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم، وخاتم الرسل، يأمره الله بأن يقول لعباده‏:‏ لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً، فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه، فضلاً عن أن يملكه لغيره، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ‏؟‏ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا يتنبهون لما حلّ بهم من المخالفة لمعنى‏:‏ لا إله إلا الله، ومدلول‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏‏؟‏ وأعجب من هذا‏:‏ اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء، ولا ينكرون عليهم، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشدّ منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضارّ النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله، ومقرّبين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضرّ والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شرّ سماعه، والله ناصر دينه، ومطهر شريعته من أوضار الشرك، وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه، وينثلج به صدره، من كفر كثير من هذه الأمة المباركة ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم بيّن سبحانه أن لكل طائفة حدّاً محدوداً لا يتجاوزونه، فلا وجه لاستعجال العذاب فقال‏:‏ ‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ‏}‏ فإذا جاء ذلك الوقت، أنجز وعده وجازى كلاً بما يستحقه، والمعنى‏:‏ أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم، أو بين بعضهم البعض أجلاً معيناً، ووقتاً خاصاً، يحلّ بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الوقت المعين، والضمير راجع إلى كل أمة ‏{‏فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ عن ذلك الأجل المعين ‏{‏سَاعَةِ‏}‏ أي‏:‏ شيئاً قليلاً من الزمان ‏{‏وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ وعليه، وجملة‏:‏ ‏{‏لا يستقدمون‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏لا يستأخرون‏}‏، ومثله قوله تعالى‏:‏

‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 5‏]‏ والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدّم في تفسير الآية التي في أوّل الأعراف، فلا نعيده‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، في قوله‏:‏ ‏{‏يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ سوء العذاب في حياتك ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل ‏{‏فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 58‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏50‏)‏ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏52‏)‏ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏53‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ‏}‏ هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأوّل‏:‏ أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله ‏{‏بَيَاتًا‏}‏ أي‏:‏ وقت بيات، والمراد به‏:‏ الوقت الذي يبيتون فيه، وينامون ويغفلون، عن التحرز، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم، وهو منتصب على الظرفية، وكذلك نهاراً‏:‏ أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب، والضمير في ‏{‏منه‏}‏ راجع إلى العذاب، وقيل‏:‏ راجع إلى الله، والاستفهام في‏:‏ ‏{‏مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون‏}‏ للإنكار المتضمن للنهي، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم‏:‏ أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب، وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له‏؟‏ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط بحذف الفاء، وقيل‏:‏ إن الجواب محذوف، والمعنى‏:‏ تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجواب قوله‏:‏ ‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ‏}‏ وتكون جملة ‏{‏مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون‏}‏ اعتراضاً، والمعنى‏:‏ إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان‏.‏ والأوّل‏:‏ أولى‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏يستعجل منه المجرمون‏}‏، ولم يقل‏:‏ يستعجلون منه؛ للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام؛ لأن من حقّ المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه، فكيف يستعجله‏؟‏ كما يقال لمن يستوخم أمراً إذا طلبه‏:‏ ماذا تجني على نفسك‏.‏ وحكى النحاس، عن الزجاج، أن الضمير في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ إن عاد إلى العذاب كان لك في ‏{‏مَاذَا‏}‏ تقديران‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تكون «ما» في موضع رفع بالابتداء، و«ذا» بمعنى الذي، وهو خبر ما، والعائد محذوف‏.‏ والتقدير الآخر‏:‏ أن يكون ‏{‏مَاذَا‏}‏ اسماً واحداً في موضع رفع بالابتداء، والخبر ما بعده، وإن جعل الضمير في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ عائداً إلى الله تعالى، كان ‏{‏مَاذَا‏}‏ شيئاً واحداً في موضع نصب ب ‏{‏يستعجل‏}‏، والمعنى‏:‏ أيّ شيء يستعجل منه المجرمون‏:‏ أي من الله عزّ وجلّ‏.‏

ودخول الهمزة الاستفهامية في ‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ‏}‏ على ثم كدخولها على الواو والفاء، وهي لإنكار إيمانهم، حيث لا ينفع الإيمان، وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته، مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به، وجيء بكلمة «ثم» التي للتراخي؛ دلالة على الاستبعاد‏.‏ وجيء ب ‏{‏إذا‏}‏ مع زيادة ما للتأكيد؛ دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته، ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم، والمعنى‏:‏ أبعد ما وقع عذاب الله عليكم، وحلّ بكم سخطه وانتقامه آمنتم، حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً، ولا يدفع عنكم ضرّاً‏.‏

وقيل إن هذه الجملة‏:‏ ليست داخلة تحت القول المأمور به، وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم، وإزراء عليهم‏.‏ والأول‏:‏ أولى‏.‏ وقيل‏:‏ إن ثم هاهنا، هي بفتح الثاء، فتكون ظرفية بمعنى هناك‏.‏ والأوّل‏:‏ أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الآن وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ قيل‏:‏ هو استئناف بتقدير القول، غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب‏:‏ آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون‏:‏ أي بالعذاب تكذيباً منكم واستهزاء؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء، ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول‏:‏ التوبيخ لهم، والاستهزاء بهم، والإزراء عليهم، وجملة ‏{‏وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، وقرئ‏:‏ «آلان» بحذف الهمزة التي بعد اللام، وإلقاء حركتها على اللام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد‏}‏ معطوف على الفعل المقدّر، قيل‏:‏ آلآن، والمراد منه‏:‏ التقريع والتوبيخ لهم‏:‏ أي قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان‏:‏ إن هذا الذي تطلبونه ضرر محض، عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك، ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم‏:‏ ذوقوا عذاب الخلد‏:‏ أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع، والقائل لهم هذه المقالة، والتي قبلها، قيل‏:‏ هم‏:‏ الملائكة الذين هم‏:‏ خزنة جهنم‏.‏ ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص، أو المؤمنون على العموم ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ في الحياة من الكفر والمعاصي‏.‏ والاستفهام للتقرير، وكأنه يقال لهم هذا القول عن استغاثتهم من العذاب، وحلول النقمة‏.‏

ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة، والجوابات عن أقوالهم الباطلة‏:‏ أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ‏}‏ أي‏:‏ يستخبرونك عن جهة الاستهزاء منهم والإنكار، أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل، وهذا السؤال منهم جهل محض‏.‏ وظلمات بعضها فوق بعض، فقد تقدّم ذكره عنهم مع الجواب عليه، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول، ولا يقال له؛ وقيل‏:‏ المراد بهذا الاستخبار منهم هو‏:‏ عن حقية القرآن، وارتفاع حق على أنه خبر مقدّم‏.‏ والمبتدأ هو الضمير الذي بعده، وتقديم الخبر للاهتمام، أو هو مبتدأ، والضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر، والجملة في موضع نصب ب ‏{‏يستنبئونك‏}‏، وقرئ «آلحق هو» على أن اللام للجنس، فكأنه قيل‏:‏ أهو الحق لا الباطل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة جواباً عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء، أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء‏:‏ إي وربي إنه لحق، أي نعم، وربي إن ما أعدّكم به من العذاب لحق ثابت كائن لا محالة‏.‏

وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه‏:‏ الأوّل‏:‏ القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم‏.‏ الثاني‏:‏ دخول إن المؤكدة؛ الثالث‏:‏ اللام في لحق؛ الرابع‏:‏ إسمية الجملة، وذلك يدلّ على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرّد إلى الغاية التي ليست وراءها غاية، ثم توعدهم بأشدّ توعد، ورهبهم بأعظم ترهيب، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع، والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم، أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه‏.‏

ثم زاد في التأكيد، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ولو أن لكل نفس من الأنفس المتصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به ما في الأرض، من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة، والذخائر الفائقة لافتدت به‏:‏ أي جعلته فدية لها من العذاب، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ وقد تقدّم قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ الضمير راجع إلى الكفار، الذين سياق الكلام معهم‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس‏.‏ ومعنى ‏{‏أسروا‏}‏‏:‏ أخفوا، أي لم يظهروا الندامة بل أخفوها، لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم، وذهب بتجلدهم، ويمكن أنه بقي فيهم، وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا، فأسرّوا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون، وقيل‏:‏ أسرّها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم، خوفاً من توبيخهم لهم، لكونهم هم الذين أضلوهم، وحالوا بينهم وبين الإسلام؛ ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين‏:‏ ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أسروا‏}‏‏:‏ أظهروا‏.‏ وقيل‏:‏ وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها، ومنه قول كثير‏:‏

فأسررت الندامة يوم نادى *** بردّ جمال عاضرة المنادى

وذكر المبرد في ذلك وجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة، وهي الإنكسار، واحدها‏:‏ سرار، وجمعها‏:‏ أسارير، والثاني‏:‏ ما تقدّم‏.‏ وقيل معنى‏:‏ ‏{‏أَسَرُّواْ الندامة‏}‏ أخلصوها؛ لأن إخفاءها إخلاصها، و‏{‏لَّمّاً‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ ظرف بمعنى حين منصوب بأسرّوا، أو حرف شرط جوابه محذوف للدلالة ما قبله عليه ‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط‏}‏ أي‏:‏ قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين، أو بين الرؤساء والأتباع، أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين‏.‏ وقيل‏:‏ معنى القضاء بينهم‏:‏ إنزال العقوبة عليهم، والقسط‏:‏ العدل، وجملة ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حلّ بهم، فإنه بسبب ما كسبوا‏.‏

وجملة ‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض‏}‏ مسوقة لتقرير كمال قدرته؛ لأن من ملك ما في السموات والأرض، تصرف به كيف يشاء، وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات، قيل‏:‏ لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله، وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به‏.‏ وقيل‏:‏ لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه، يتصرّف به كيف يشاء، وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه تنبيه للغافلين، وإيقاظ للذاهلين، ثم أكد ما سبق بقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ كائن لا محالة، وهو عامّ يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجاً أوّلياً، وتصدير الجملة بحرف التنبيه، كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏ أي‏:‏ الكفار ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما فيه صلاحهم، فيعملون به، وما فيه فسادهم فيجتنبونه ‏{‏هُوَ يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ يهب الحياة ويسلبها‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ في الدار الآخرة، فيجازي كلاً بما يستحقه، ويتفضل على من يشاء من عباده‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه، والوعظ في الأصل‏:‏ هو‏:‏ التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب، والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضرّه، و‏{‏مِنْ‏}‏ في ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ متعلقة بالفعل، وهو ‏{‏جاءتكم‏}‏، فتكون ابتدائية، أو متعلقة بمحذوف، فتكون تبعيضية ‏{‏وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور‏}‏ من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين، لوجود ما يستفاد منه في من العقائد الحقة، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة، والهدى‏:‏ الإرشاد لمن اتبع القرآن، وتفكر فيه، وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة، والرحمة‏:‏ هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم الله بها عباده، فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها، فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور‏.‏

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ المراد بالفضل من الله سبحانه‏:‏ هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر، والرحمة‏:‏ رحمته لهم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ فضل الله‏:‏ القرآن، ورحمته‏:‏ الإسلام‏.‏ وروي عن الحسن والضحاك، ومجاهد وقتادة، أن فضل الله‏:‏ الإيمان، ورحمته‏:‏ القرآن‏.‏ والأولى‏:‏ حمل الفضل والرحمة على العموم، ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أوّلياً، وأصل الكلام‏:‏ قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏ عليه، قيل‏:‏ والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدّر، كأنه قيل‏:‏ إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح‏.‏

وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقلّ في الفرح، والفرح‏:‏ هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب، وقد ذمّ الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ وجوّزه في قوله‏:‏ ‏{‏فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 170‏]‏ وكما في هذه الآية، ويجوز أن تتعلق الباء في ‏{‏بفضل الله وبرحمته‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏جَاءتْكُمُ‏}‏، والتقدير‏:‏ جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك‏:‏ أي فبمجيئها، فليفرحوا، وقرأ يزيد بن القعقاع ويعقوب «فلتفرحوا» بالفوقية، وقرأ الجمهور بالتحتية، والضمير في ‏{‏هو خير‏}‏ راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة، أو إلى المجيء على الوجه الثاني، أو إلى اسم الإشارة في قوله ‏{‏فَبِذَلِكَ‏}‏ والمعنى‏:‏ أن هذا خير لهم مما يجمعون من حطام الدنيا‏.‏ وقد قرئ بالتاء الفوقية في ‏{‏يَجْمَعُونَ‏}‏ مطابقة للقراءة بها في ‏{‏فلتفرحوا‏}‏‏.‏ وقد تقرّر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة، جاءت هذه القراءة عليها، قورأ الجمهور بالمثناة التحتية في يجمعون، كما قرءوا في ‏{‏فليفرحوا‏}‏‏.‏ وروي عن ابن عامر أنه قرأ بالفوقية في ‏"‏ يجمعون ‏"‏، والتحتية في ‏"‏ فلتفرحوا ‏"‏‏.‏

وقد أخرج الطبراني، وأبو الشيخ، عن أبي الأحوص، قال‏:‏ جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال‏:‏ إن أخي يشتكي بطنه، فوصف له الخمر، فقال‏:‏ سبحان الله‏!‏ ما جعل الله في رجس شفاء، إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل، فهما شفاء لهما في الصدور، وشفاء للناس‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، قال‏:‏ إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور، ولم يجعله شفاء لأمراضكم‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني أشتكي صدري، فقال‏:‏ ‏"‏ اقرأ القرآن، يقول الله‏:‏ شفاء لما في الصدور ‏"‏ وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن واثلة بن الأسقع، أن رجلاً شكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وجع حلقه، قال‏:‏ ‏"‏ عليك بقراءة القرآن والعسل، فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء ‏"‏‏.‏ وأخرج أبو داود، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبيّ قال‏:‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتاء يعني الفوقية، وقد روى نحو هذا من غير هذه الطريق‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ‏}‏ قال‏:‏

«بفضل الله‏:‏ القرآن، وبرحمته‏:‏ أن جعلكم من أهله» وأخرج الطبراني في الأوسط، عن البراء، مثله من قوله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الشعب، عن أبي سعيد الخدري، مثله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس، في الآية قال‏:‏ بكتاب الله بالإسلام‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عنه قال‏:‏ فضله‏:‏ الإسلام، ورحمته‏:‏ القرآن‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عنه أيضاً قال‏.‏ بفضل الله‏:‏ القرآن، وبرحمته‏:‏ حين جعلهم من أهله‏.‏ وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدّمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام‏.‏